إن الحديث عن صبره عليه الصلاة
والسلام ، هو في حقيقة الأمر حديث عن حياته كلها ، وعن سيرته بجميع
تفاصيلها وأحداثها ، فحياته صلى الله عليه وسلم كلها صبر ومصابرة ، وجهاد
ومجاهدة ، ولم يزل عليه الصلاة والسلام في جهد دؤوب ، وعمل متواصل ، وصبرٍ
لا ينقطع ، منذ أن نزلت عليه أول آية ، وحتى آخر لحظة في حياته .
لقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيعة ما سيلقاه في هذا الطريق ،
منذ اللحظة الأولى لبعثته ، وبعد أول لقاء بالملك ، حين ذهبت به خديجة
رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل ، فقال له ورقة : يا ليتني كنت حياً إذ
يخرجك قومك ، فقال له عليه الصلاة والسلام : ( أو مخرجي هم ؟ ) ، قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي . فوطن نفسه منذ البداية على تحمل الصد والإيذاء والكيد والعداوة .
ومن المواقف التي يتجلّى فيها صبره عليه الصلاة والسلام ، ما تعرض له
من أذى جسدي من قومه وأهله وعشيرته وهو بمكة يبلغ رسالة ربه ، ومن ذلك ما
جاء عند البخاري أن عروة بن الزبير سأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد
شيء صنعه المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : بينا النبي صلى
الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فوضع
ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ، ودفعه عن
النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ .
وفي يوم من الأيام كان عليه الصلاة والسلام يصلي عند البيت ، وأبو جهل
وأصحابٌ له جلوس ، فقال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه
على ظهر محمد إذا سجد ، فانبعث أشقى القوم فجاء به ، فانتظر حتى سجد النبي
صلى الله عليه وسلم فوضعه على ظهره بين كتفيه ، فجعلوا يضحكون ويميل
بعضهم على بعض ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه ، حتى
جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره الأذى .
وأشد من ذلك ، الأذى النفسي المتمثّل في ردّ دعوته وتكذيبه ، واتهامه بأنه كاهن وشاعر ومجنون وساحر ، وادعاء
أن ما أتى به من آيات ما هي إلا أساطير الأولين ، ومن ذلك ما قاله أبوجهل
مستهزئا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء
أو ائتنا بعذاب أليم فنزلت : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } ( الأنفال : 33 – 34 ) ، وروى البخاري
في صحيحه أن امرأة من المشركين جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت
له : يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ؛ لم أره قربك منذ ليلتين
أو ثلاثا . فأنزل الله عز وجل : { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى }
( الضحى : 1 – 3 ) ، وكان أبو لهب يتْبَع النبي صلى الله عليه وسلم في
مجامع الناس وأسواقهم ، ويكذّبه ، بينما كانت امرأته أم جميل تجمع الحطب
والشوك وتلقيه في طريقه .
وقد حدَّث صلى الله عليه وسلم عن موقف من مواقف الأسى والكرب ، حين
يبلغ بالإنسان الحد أن ينسى نفسه وهو في غيبوبة الهم والحزن ، وذلك بعد أن
ضاقت عليه مكة فخرج إلى الطائف يطلب النصرة ، فقد روى البخاري ومسلم أن
عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقالت : هل أتى
عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : ( لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان
أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد
كلال فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق
إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت
فإذا فيها جبريل ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا
عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال
فسلم علي ، ثم قال : يا محمد فقال : إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد
الله وحده لا يشرك به شيئا ) .
ويبلغ الأذى قمته فيُحاصر صلى الله عليه وسلم ثلاث سنوات في شعب أبي
طالب ، وتهجم عليه الأحزان المتوالية ، فيفقد زوجته خديجة التي كانت خير
ناصر ومعين بعد الله عز وجل ، ثم يفاجأ بموت عمه الذي كان يحوطه ويدافع
عنه ، ويضاعف حزنه أنه مات على الكفر ، ثم يخرج من بلده مهاجراً بعد عدة
محاولات لقتله واغتياله ، وفي المدينة يبدأ عهداً جديدا ًمن الصبر
والتضحية ، ، وحياة فيها الكثير من الجهد والشدة ، حتى جاع وافتقر ، وربط
على بطنه الحجر ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد أُخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الله وما يُؤذى أحد ، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة ومالي ول بلال طعامٌ يأكله ذو كبد ، إلا شيء يواريه إبط بلال ) رواه الترمذي .
وما بدر وأحد والأحزاب وتبوك وحنين وغيرها من غزواته وسراياه التي بلغت
مائة غزوة وسرية ، إلا صفحات مضيئة من صبره وجهاده صلى الله عليه وسلم ،
ولم يكن يخرج من غزوة إلا ويدخل في أخرى ، حتى شُجَّ وجهه الشريف ، وكسرت
رباعيته ، واتهم في عرضه ، ولحقه الأذى من المنافقين وجهلة الأعراب ، بل روى
البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : قسم رسول الله صلى
الله عليه وسلم قسمة ، فقال رجل من الأنصار : والله ما أراد محمد بهذا وجه
الله ، قال ابن مسعود : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فتمعر وجهه وقال : ( رحم الله موسى ، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) .
ومن المواطن التي صبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، أيّام موت
أولاده وبناته ، حيث كان له من الذرية سبعةٌ ، توالى موتهم واحداً تلو
الآخر حتى لم يبق منهم إلا فاطمة رضي الله عنها ، فما وهن ولا لان ، ولكن صبر صبراً جميلاً ، حتى أُثر عنه يوم موت ولده إبراهيم قوله: ( إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) .
ولم يكن صبر النبي صلى الله عليه وسلم مقتصراً على الأذى والابتلاء ،
بل شمل صبره على طاعة الله سبحانه وتعالى حيث أمره ربّه بذلك في قوله : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } ( الأحقاف : 35 ) ، وقوله : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها }
( طه : 132 ) ، فكان يجتهد في العبادة والطاعة حتى تتفطّر قدماه من طول
القيام ، ويكثر من الصيام والذكر وغيرها من العبادات ، وإذا وكان شعاره في
ذلك : أفلا أكون عبدا شكورا ؟
لقد
كانت وقائع سيرته صلى الله عليه وسلم مدرسة للصابرين ، يستلهمون منها
حلاوة الصبر ، وبرد اليقين ، ولذة الابتلاء في سبيل الله تعالى .
موقع مقالات اسلام ويب